ترتفع حدة التوتر في لبنان في الوقت الذي يرفض فيه رئيس الوزراء سعد الحريري الرضوخ لمطالب حزب الله بشجب التحقيق الذي تدعمه الأمم المتحدة في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وفي هذه المقابلة، يصف بول سالم كيف تتلقّف الأطراف كلها نتائج التحقيق، وكيف تؤثِّر القوى الإقليمية أي السعودية وإيران وسورية على التطوّرات، وكيف تنظر الولايات المتحدة إلى غياب الاستقرار على الساحة اللبنانية.

والمفارقة أنّ القرار الظني، في حال صدوره في ظل مناخ التوتر السائد حالياً، "قد يؤجِّج العصبيات بين الشيعة والسنّة، مُفضياً إلى أعمال عنف تخرج عن السيطرة"، على الرغم من أنّ اللاعبين كلّهم يحاولون تجنّب العنف، كما يشرح سالم.

 
 هل منسوب التوتر إلى ارتفاع في لبنان؟

ازدادت حدة التوتر في لبنان منذ أن تردّدت معلومات حول توجُّه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى الكشف عمّا توصّلت إليه تحقيقاتها في عملية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وقد رجّحت هذه التسريبات أن تُصدِر المحكمة قرارها الظني الاتهامي قبل نهاية العام الجاري، وأن تُوجَّه أصابع الاتهام إلى عناصر من حزب الله، الأمر الذي رفع منسوب التوتر على نحو ملحوظ في لبنان منذ تموز/يوليو.

سارع قائد حزب الله حسن نصر الله إلى تصعيد مواقفه بعبارات شديدة اللهجة، مُعلناً عن تسييس المحكمة والتلاعب بأدلّتها، ومؤكِّداً أنّ دوافع سياسية تحدو أي قرار اتهامي يستهدف حزب الله. كما صنّف كل من يتعاون مع المحكمة في خانة المتعاون سياسياً مع إسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى لإضعاف المقاومة. وبذلك، ساهم نصر الله بصورة ملحوظة في رفع منسوب التوتر إلى حد كبير.  

لا تزال قضية المحكمة تذكي التوتر في لبنان على الرغم من المفاوضات المكثّفة التي يجريها السياسيون اللبنانيون، والتي يشترك فيها قادة دول أخرى في المنطقة في محاولة لإيجاد تسوية ما تنزع فتيل هذه الأزمة المستعرة.

 
 كيف ستؤثِّر النتائج، التي يُتوقَّع أن تكشف عنها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، على الوضع في لبنان؟

 يواجه لبنان سيناريوهات عدة سيتبلور معظمها قبل صدور القرار الظني. فحزب الله الذي يحظى بدعم سورية وإيران يتوقّع صدور القرار الظني قبل نهاية العام، ما يبرِّر الضغوط التي يمارسها على رئيس الوزراء سعد الحريري وعلى حكومته لاتخاذ موقف بشأن المحكمة قبل ذلك التاريخ. والواقع أنّ حزب الله يتطلّع إلى موقف شاجب للمحكمة والتحقيق أو أقلّه مشكِّك فيهما، وإلى تجميد تعاون لبنان المالي والقضائي مع المحكمة. والأهم أنّ حزب الله يترقب حدوث ذلك قبل صدور القرار الظني. لذلك، من المحتمل ألاّ يدّخر جهداً للضغط في هذا الاتجاه.

تبرز أمام حزب الله خيارات متعددة قد يتّخذها لبلوغ هذه الغاية. الخطاب والضغط السياسيّان سيِّدا الموقف في الوقت الراهن. لذلك، قد يرتأي حزب الله أن يكثِّف ضغوطه عبر مقاطعة الحكومة أو تجميد عملية صنع القرار داخل الحكومة والبرلمان، الأمر الذي سيشل الدولة بالكامل. كذلك، قد يشجِّع العصيان المدني مع ما يتضمّنه ذلك من إقفال للطرق أو المطارات. لكنّ الحزب قد يذهب إلى أبعد من ذلك في محاولته لتكثيف الضغوط، فيلجأ إلى الخيار الآخر المتمثِّل في التحرّك العسكري، أي اعتقال الأشخاص والاستيلاء على كامل العاصمة وضواحيها أو أجزاء منها، كما فعل في أيار/مايو 2008.

إذاً، أمام حزب الله مروحة من الخيارات، لكنّه يفضِّل عدم اللجوء إليها لتجنّب مواجهة طائفية بين الشيعة والسنّة في لبنان. يضاف إلى ذلك أنّ حزب الله لا يريد لرئيس الوزراء الحالي أن يستقيل. بعبارة أخرى، لا يريد حزب الله رئيساً جديداً لمجلس الوزراء بل تنازلاً من الرئيس الحالي. إنّها للعبة دقيقة بالفعل.

قد لا يكون للقرار الظني أي تداعيات هائلة في حال صدوره بعد انتزاع تنازلات قسرية من الحكومة اللبنانية. وبما أنّ حزب الله يتمتّع بالنفوذ داخل الحكومة، فلن تتمكّن الأخيرة، كما هو مرجّح، من تنفيذ أي مذكرة اعتقال أو اتخاذ أيّ تحرك قضائي داعم للمحكمة، ذلك أنّ المعارضة التي تملك الصوت المرجّح في الحكومة ستكون بالمرصاد لتعيق أي عمل من هذا النوع.

لكن إن صدر القرار الظني في وقت قريب في ظلّ مناخ التوتر الحاد السائد حالياً، وقبل انتزاع أي تنازلات أو التوصّل إلى أي تسويات، قد تتأجّج العصبيات بين الشيعة والسنة، وصولاً إلى أعمال عنف تخرج عن السيطرة. باختصار، يصعب التكهّن بما ستؤول إليه الأمور على الرغم من أن كلا الطرفين يحاول تلافي ذلك.

 
أي دور يضطلع به اللاعبون الإقليميون الأساسيون في لبنان؟

 يضطلع اللاعبون الإقليميون بدور جوهري جداً في لبنان وفي هذه الأزمة. صحيح أنّ سورية صوّبت علاقتها مع رئيس الوزراء الحالي سعد الحريري، نجل رئيس الوزراء السابق المغدور، إلاّ أنّها تدعم حزب الله وتعترض على ارتباط لبنان بالمحكمة. لذلك، يبدو أنّها تحاول التوفيق بين مواقف الجانبين في تعاطيها مع رئيس الوزراء. لعلّ سورية تحبّذ بقاء سعد الحريري رئيساً للوزراء، لكنّها تريد منه التنازل في مسألة المحكمة، بينما لا يزال هو متمسِّكاً بموقفه في هذا الخصوص.

أما العلاقات بين سورية والسعودية، التي تعتبر الراعي والداعم الأكبر لرئيس الوزراء، فشهدت تحسُّناً على مدى الأشهر المنصرمة، بدليل تعاون البلدين خلال الانتخابات وأثناء تشكيل الحكومة في العراق. وفي لبنان أيضاً، يحرص البلدان على العمل معاً بعدما أدركت السعودية أنّها، وبتعاونها مع سورية، تستطيع أن تحمي مصالح الطائفة السنّية في العراق ولبنان.

لقد اشتدت الخلافات في العراق بعدما اصطفت سورية إلى جانب إيران في اختيارها نوري المالكي رئيساً للوزراء في العراق. وساءت العلاقات في ظلّ مخاوف من أن يرتدّ الأمر سلباً على التعاون في الملف اللبناني. ومع أنّ السعودية لا تريد أن يتطوّر الوضع في لبنان إلى اقتتال طائفي، إلاّ أنّها لا تريد في المقابل تقديم تنازلات في مسألة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تعتبرها جزءاً من الشرعية الدولية نظراً إلى ارتباطها بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كذلك، سيكون من المثير للجدل للبنان والسعودية أن يقطع لبنان صلته بالمحكمة. لذلك، يكثِّف السعوديون والسوريون مفاوضاتهم حول هذا الموضوع.

للإيرانيين دور أيضاً من دون شك. فهم يدعمون حزب الله وينتقدون المحكمة أشد انتقاد. فالرئيس الإيراني أحمدي نجاد زار لبنان في الأسبوع الفائت، وفضلاً عن زيارته إلى الجنوب، التي أرادها لتوجيه رسالة معادية لإسرائيل، شدّدت زيارته إلى بيروت، حيث التقى الرئيس وغيره من المسؤولين، على أهمية التوافق وضرورة إيجاد حلول توافقية للأزمات اللبنانية. لذلك، يمكن القول إنّه وبطريقة ما ضمّ صوته إلى الأصوات الداعية إلى التوافق على حلّ لقضية المحكمة.

لكنّ منسوب التوتر لا يزال مرتفعاً على الرغم من المحاولات الإقليمية أخلافية كانت أم توافقية.

هل تقيم الحكومة اللبنانية علاقات جيدة مع سورية؟

 ممّا لا شك فيه أن سورية استعادت جزءاً كبيراً من نفوذها في لبنان، في ما يعود جزئياً إلى حلفائها الأقوياء في لبنان وعلى رأسهم حزب الله. فبعد إعادة تسليح حزب الله في العام 2006، تحالف كثرٌ من حلفاء حزب الله في لبنان مع سورية. 


وما عزّز نفوذ سورية هو التغيُّر المُسجَّل في سياسة السعودية التي دعمت في السنوات المنصرمة قوى 14 آذار المعادية لسورية بغية إضعاف سورية ومعارضتها. بيد أنّ السعودية أدركت في العام 2008 أنّ حزب الله وحلفاءه أكثر قوة من قوى الرابع عشر من آذار. وعندما قهر حزبُ الله 14 آذار، في بيروت في أيار/مايو، أدركت السعودية أنّ التهديد الذي يفرضه حزب الله حقيقي وساحق. بالمثل، توصّلت السعودية إلى الخلاصات عينها في العراق حيث عاد دعمها للمجموعات السنّية ليرتدّ عليها بعدما كانت تبغي درء النفوذ السوري والإيراني.  

وعقب انسحاب سورية من لبنان في العام 2005، استفادت إيران، وليس السعودية والولايات المتحدة، من الفراغ لكسب النفوذ. لذلك، آثرت السعودية، بغية حماية حلفائها السنّة، وإدارة نفوذ سورية وحزب الله المباشر أو الحد منه، التعاون مع سورية والسعي إلى استمالتها، ليس بالضرورة لحثِّها على فك ارتباطها بإيران، بل لبناء العلاقة معها. فكان التعاون السعودي مع سورية في العراق ولبنان، هذا التعاون الذي حدا بالزعيم السنّي وليد جنبلاط إلى الانعطاف وإعادة بناء علاقته مع سورية.

رئيس الوزراء سعد الحريري يحاول هو الآخر إعادة بناء علاقته مع سورية. لكنّ سورية تطالبه بالكثير. فهي تريد منه التخلّص من معظم مستشاريه الذين أحاطوا به حين كان ينتهج سياسة معادية لها. كما أنّها تمارس عليه الضغوط لينأى بنفسه عن المحكمة. إذاً، بينما تسعى سورية إلى إعادة بناء علاقتها معه، تحاول أن تجرِّده ممّا كان يمثِّله لفترة طويلة. حتى الآن هو يتمسّك بموقفه، لكنّه في وضع صعب جداً.


ما مدى نفوذ إيران في لبنان؟

 لا شك في أنّ إيران تتمتع بنفوذ كبير عبر حزب الله، الذي يُعتَبَر القوة العسكرية الأقوى في لبنان، إلى جانب كونه فاحش الثراء، ومن خلال حلفاء حزب الله في لبنان. ومع بروز إيران كدولة إقليمية ناشئة، يتطلّع لاعبون كثر في لبنان إلى بناء تحالفات معها، إقراراً منهم بأنّ إيران ستكون لاعباً أساسياً لسنوات عدة في المنطقة. وبالتالي، يرون أنّه من المنطقي بناء علاقة ما معها.

التنافس قائم بعض الشيء بين إيران وسورية حول الجهة التي تتحكّم فعلياً بزمام الأمور في لبنان. هذا التنافس ليس عدائياً. فسورية وإيران في نهاية المطاف حليفان استراتيجيان، وعادة ما يتعاونان حول معظم المسائل. لكنّ سورية تريد أن يكون لبنان في دائرة نفوذها وهي تسمح لإيران باللعب في هذا المسرح. أما إيران فتحاول أن تُظهر، من خلال زيارة الرئيس أحمدي نجاد، أنّ لبنان جزء مباشر من دائرة النفوذ الإيراني. في المقابل، تسعى السعودية إلى أن تستغل هذا التنافس.

 ومع أنّي لا أعتبر هذا التنافس جوهرياً إلا أنّه قائم. بالإجمال، تحترم إيران دور سورية في محيطها المباشر وتتشاور معها عن كثب ولا تريد أن تستعديها. إذاً، في موازاة نفوذ إيران الكبير، تضطلع سورية، بالاتفاق المتبادل، بدور أكثر نشاطاً. وبما أنّ لبنان بلد عربي، فللعلاقات وحواجز اللغة ثقل لافت.


ما هي الروابط القائمة بين إيران وحزب الله؟

الروابط القائمة بين إيران وحزب الله جوهرية وأساسية وبعيدة المدى، خصوصاً أنّ إيران هي مصدر معظم التمويل والتسليح والتدريب والتنسيق بين القيادات. لكنّ حزب الله حزب سياسي لبناني في الوقت عينه. وإلى جانب مشاركته في الحكومة والبرلمان، هو مستقلّ إلى حدّ كبير عن إيران في مسائل عدة، منها ما هو استراتيجي وأمني.

يضطلع حزب الله بأكثر من دور. ففي دوره الاستراتيجي الأكبر، يشكِّل قوة ردع بديلة لإيران في مواجهة إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة. ولا شك في أن حزب الله ينسِّق عن كثب مع إيران. لذا، أرى أنّ إيران، في حال تعرّضها إلى هجوم، نافذة بما يكفي لتشرك حزب الله في ما لو أرادت ذلك. هذا الرادع متاح لتستعمله إيران متى أرادت على الرغم من أنّ أي حرب بين حزب الله وإسرائيل ستكون جدّ مدمرة.

 
كيف تصفون العلاقات بين لبنان والولايات المتحدة؟

تواصل الولايات المتحدة التشديد على دعمها الكامل للمحكمة وضرورة تجنّب أي تصعيد أو زعزعة للاستقرار في لبنان، وذلك من خلال مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى السفير، جيفري فيلتمان، الذي زار لبنان ويزور عواصم أخرى في المنطقة، بالإضافة إلى التصريحات الصادرة عن الإدارة الأميركية.

الولايات المتحدة غير منغمسة في المفاوضات، التي تتم حالياً وراء أبواب موصدة بين السياسيين اللبنانيين وسورية والسعودية وربما إيران، لكنّها تلعب دوراً هاماً بطرق عدة. 

أولاً، هي تواصل قيادة المجتمع الدولي في دعمه المحكمة بغض النظر عما يحدث في لبنان. لذلك، ستمضي المحكمة، لا بل يجب أن تمضي قدماً بوتيرة سريعة. يتعيّن على المحكمة أن تُصدر قرارها الظني، وتمضي قدماً بصفتها محكمة دولية لتكشف الحقيقة بعد تحقيق دام 5 أعوام.

كذلك، لا تزال الولايات المتحدة تدعم الحكومة والدولة اللبنانية. هذا ضروري ويجب أن يستمر. وتحاول الإدارة أن تحافظ على دعمها للقوات المسلّحة اللبنانية التي تنال سنوياً دعماً عسكرياً بقيمة تناهز مئة مليون دولار. وهذا الدعم، وإن كان لا يشتمل على الأسلحة والعتاد بمعظمه، يبقى ضرورياً لعمليات القوات المسلحة اللبنانية.


إلى أي مدى يُعتَبَر الوضع مستقراً على الحدود بين لبنان وإسرائيل؟

الوضع مستقرّ بالإجمال على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. ففي مطلع آب/أغسطس، وقعت مواجهة بين الجيش الإسرائيلي والقوات المسلحة اللبنانية كادت تخرج عن السيطرة. أعتقد أن الأطراف كلها تعلّمت ممّا حصل وتريد أن تتلافى تكراره في المستقبل.

أما قوات اليونيفيل التي تلعب دور الوساطة بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي فقد تعلمت هي الأخرى الكثير من الأمثولات الإجرائية وهي اليوم أكثر تنبّهاً. بالتالي، كان الحادث شكلاً من أشكال التحصين ضدّ حوادث أخرى مماثلة بشكل عام. لذلك، أتوقّع أن يدوم الاستقرار على الحدود في الوقت الراهن. فلا مصلحة للإسرائيليين واللّبنانيين وحزب الله بتصعيد الوضع الآن.

لكنّ التخوّف هو من أن تبادر إسرائيل في العام القادم، إنْ ظلّ الملف النووي عالقاً، إلى التفكير بجدية أكبر في خيارات عسكرية، الأمر الذي سيؤثِّر بطبيعة الحال على حزب الله، وقد ينطوي على شنّ هجمات على حزب الله الذي قد يردّ. إذاً الخوف أكبر من وقوع مواجهة ما في المستقبل أكثر منه في الوقت الحاضر.