حين انتشرت الانتفاضات السياسية في معظم أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العام 2011، اهتزت الأنظمة أنحاء المنطقة برمتها وأُطيح بعضها. لكن في الضفة الغربية وقطاع غزة، كانت السلطويّة الناعمة التي أثارت انتفاضات في أماكن أخرى تعمل فقط على تجذير نفسها أكثر.

لقد بنت حماس، خلال السنوات الخمس التي مضت منذ أن سيطرت بشكل انفرادي على قطاع غزة، جهازاً حاكماً يسيطر الآن بشكل صارم على هذا القطاع الصغير. وبين كانون الثاني/يناير 2006، عندما فازت حماس في الانتخابات البرلمانية، والثاني من حزيران/يونيو 2007، عندما تم تقسيم السلطة الفلسطينية بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة في حرب أهلية قصيرة، تميّزت السياسة الفلسطينية بالاضطراب وعدم اليقين. بيد أنه منذ ذلك الوقت، تكيّف شطرا النظام السياسي الفلسطيني. ففي غزة، استحوذت حماس على خرائب مؤسّسات السلطة الفلسطينية وعملت على إعادة بنائها، كما محت أحياناً  في سياق العملية الفاصل بين حماس كحركة وبين حكومة غزة. 

ناثان براون
ناثان ج. براون أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، وباحث مرموق، ومؤلّف ستة كتب عن السياسة العربية نالت استحساناً.
More >

ويُظهر التركيز على المجالين القانوني والتعليمي مزاوجة بين نمط من الإنجازات قصيرة الأمد وبين مسار مقلق طويل الأمد. ففي مشروعها للحكم، نجحت حماس، إلى حدَ ما، مع أن التقدّم كان بطيئاً. إذ أن المجتمع المدني في قطاع غزة لايزال فعّالاً، لكن في بيئة تضع قيوداً على النشاط السياسي والمعارضة. غزة لديها الآن هيكل قضائي يعمل بكامل طاقته، وإن لم يكن مثالياً، ونظام مرتجل يمكنه صياغة قدر متواضع من التشريعات المحدودة. ثم أن النظام التعليمي للفلسطينيين لم يجر احياءه وحسب، بل بات يعتبر أيضاً واحداً من مجالات التنسيق الهادئة القليلة مع الضفة الغربية.

بيد أن هذه الإنجازات تقوم على أساس سلطوي. صحيح أن جزءاً كبيراً من أجندة حماس لأسلمة المجتمع أرجيء في الوقت الراهن، إلا أن النظام السياسي مجرّد تماماً من أي آليات للمساءلة. ويجري بإمعان التحكّم بوسائل الإعلام والمنظمات المحلّية غير الحكومية. يمكن لأحزاب المعارضة أن تفعل مايحلو لها سرّاً، لكنها لاتزال مقيّدة في ما بمستطاعها القيام به بشكل واضح أو علانية. وقد مكّنت عملية إعادة بناء النظام القانوني، في بعض الأحيان، الخصائص السلطوية للحوكمة في غزة، لكنها نادراً ماعرقلتها.

إن ترسيخ السلطوية لايوفّر للفلسطينيين سوى القليل من الخيارات. إذ لايمكن لسلسلة اتفاقات الوحدة بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة - كان آخرها اتفاق أيار/مايو 2011 – أن تحجب حقيقة أنه لم يجر اتّخاذ خطوات حقيقية نحو الوحدة. ليس ثمّة طريق سهلة للخروج من ورطة فلسطين، لكن من الصعب أن نتخيّل حصول قدر كبير من التغيير من دون بعض الضغط من أسفل. وهذا أمر يبعث على القلق، لأن من الصعب جدا أن نتصوّر إجراء انتخابات في الوقت الحاضر. وطالما بقي سكان غزة، وجميع الفلسطينيين، بلا صوت في شؤونهم الخاصة، فمن الصعب أن نرى أي طريق للتقدّم إلى الأمام.

 مشهد مألوف بصورة غير مريحة

سمعت وأنا أسير في أحد شوارع غزة مع أحد المعارف الفلسطينيين، صوت حوافر حصان تبعتها تحية حارة "السلام عليكم" وتلويحة باليد من راكبه. نظرت إلى أعلى لأرى رجلاً يرتدي قميصاً – تي شيرت - وقبعة بيسبول وعليها شعار قوة شرطة الخيّالة في غزة. ربما بسبب نقص الوقود، لايزال في الواقع شرطة الخيّالة في غزة (على عكس نظرائهم الكنديين) يقومون بدوريّات على ظهور الخيل. وبعد أن مرّ الرجل علّق صاحبي ساخراً: "هؤلاء هم فرساننا."

وأثناء زيارة قمت بها إلى غزة في أيار/مايو 2012، عاينت بالتأكيد بعض العناصر الغريبة أو غير العادية: نظام نقل عام يتكوّن من المناداة على أي سيارة مارّة، ودفع مبلغ متواضع للركوب مع سائق يسير في الاتّجاه نفسه، أو حملة لتجميل المدن - إذا كان من الممكن أن نطلق عليها هذا الاسم -  تتكوّن من الملصقات والشعارات الحماسيّة التي تغطي كل الجدران العامة تقريباً. كان ثمّة مؤشرات واضحة على نزعة المحافظة الاجتماعية التي لايفرضها القانون بقدر ما يفرضها الضغط الاجتماعي (والحكومي في بعض الأحيان)، حيث لاوجود تقريباً للنساء السافرات ولا للمشروبات الكحولية في أي مكان عام.

بيد أن معظم ما رأيت كان بصمات مألوفة جداً من النسخة الأكثر نعومة للسلطويّة العربية. فهي سلطوية تضبط المعارضة وتنظّمها، لكنها تسمح لها بالعمل في حدود معيّنة، وتفرض مجموعة من الخطوط الحمراء المتغيّرة باستمرار لتنظيم الخطاب والعمل السياسي العلني، وتغربل الموظفين الحكوميين لمعرفة انتماءاتهم السياسية. كما تحتكر السلطات مجموعة من الأدوات القانونية والمؤسّسية للحفاظ على ديمومة النظام، وتقوم بهجمات سريعة ومفاجئة، بين الحين والآخر، على شكل إجراءات خارج نطاق القانون تماماً عندما يشعر الحكام بأن ذلك ضروري. هي سلطويّة تضفي على نفسها الصبغة المؤسّسية بطرق لاتعدّ ولاتحصى في السياسة والمجتمع بحيث يبدو استمرارها أمراً لا مفرّ منه تقريباً.

منذ العام 2007، خضعت الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مايبدو أنها أشكال مختلفة بصورة حادّة من الحكم. فحكومة حماس الإسلامية في غزة تقابلها حكومة في الضفة الغربية هي مزيج غير مستقرّ للحكم التكنوقراطي بزعامة رئيس الوزراء سلام فياض ولحكم حزب فتح الوطني الذي يتزعمه الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

لكن، مع وجود جميع الاختلافات في التفاصيل، وربما في الأسلوب، ثمّة توازٍ واضح بين قطاع غزة وبين مايتكشّف في الضفة الغربية. ففي كلا المنطقتين، يبدو أن فلسطين ترسّخ شكلاً من أشكال السياسة التي أثارت انتفاضات في أماكن أخرى في المنطقة. وقد يجد مصري عاش خلال سنوات حكم مبارك بعض أوجه التشابه الغريب مع أي من شطري النظام السياسي الفلسطيني، حيث حتى السخرية المستكينة للسكان  تذكِّر بمصر عقد التسعينيات وأوائل العقد المنصرم.

مع ذلك، لم تصل الحكومة في غزة بعد إلى ما وصلت إليه مصر تماماً. لقد وصفتُ نظام حسني مبارك ذات مرة بأن لديه حسّاً قوياً بالمصالح الوطنية، لكن ليس لديه شعور بمبرّر وجوده. أما في غزة، فسبب وجود الحكومة لايزال، على الأقلّ، واضحاً إلى حدّ كبير، حيث لا تني أوراق الاعتماد الإيديولوجية الإسلامية تمنح قرارات السياسة جوهرها وطابعها إلى حدّ ما. ثم أنه ليس ثمّة مايشير إلى أن قيادة حركة حماس في الحكومة قد تخلّت عن تصوّرها لمفهوم "المقاومة" أو قبلت بأن دويلتها في غزة هي أشبه بنقطة النهاية لطموحاتها.

على الصعيد الدولي، كان الكثير من التركيز على بناء المؤسسات الفلسطينية ينصبّ على الجهود التي تبذلها حكومة رام الله، وهو برنامج وصفتُه بأنه يولّد وهماً  غربياً جماعياً. وعندما لايتحوّل الاهتمام إلى حركة حماس وقطاع غزة، غالباً ما تحتلّ الدبلوماسية الدولية والتهديد بالحرب مركز الصدارة: ولذا فإن محاولة زعيم حركة حماس خالد مشعل الأخيرة لقيادة المنظمة نحو المصالحة مع حركة فتح، وضمناً باتجاه المقاومة الشعبية والدبلوماسية الدولية، أثارت اهتماماً كبيراً.  لقد فشلت هذه المحاولة لجملة من الأسباب، لكن كان من بينها أنه من خلال التوجّه نحو إعادة توحيد الضفة الغربية وغزة، هدّدت تلك المحاولة بإضعاف موقف حماس الحصين في قطاع غزة من دون تقديم أي فائدة محدّدة. لقد قرر قادة حماس الحذرون والمرتاحون إلى حدّ كبير في قطاع غزة التمسّك بما لديهم.

لفهم السياسة الفلسطينية، البدء من نقطة الصفر والمتابعة لا يقلّ أهميّة عن النظر إلى الأمور من وجهة نظر الدبلوماسية الدولية. وقد حاولتُ اتّباع مقاربة أكثر شعبية خلال زيارة قمت بها إلى غزة ورام الله في أيار/مايو، وتحدّثت إلى مجموعة كبيرة من الجهات الفاعلة المختلفة ذات الانتماءات السياسية المختلفة، من قادة سياسيين ومنظمات غير حكومية، إلى مسؤولين حكوميين ومعلمين. من الواضح على أرض الواقع أن غزة لديها حكومة فاعلة، حتى في المجالات التي تحتاج إلى المال مثل التعليم، أو تلك المحتاجة من الناحية الفنية مثل النظام القانوني والقضائي، وهو مايؤكّد نتائج دراسات سابقة وثّقت الطريقة التي تعافت بها الحكومة التي تقودها حماس من ضربة الانقسام العام 2007.  لقد وجدتُ ما هو أقلّ بكثير من إمارة إسلامية أو معسكر لثوار حرب الغوار. وجدتُ دولة حزب ناشئة تحمل بعض أوجه الشبه بتلك التي ظهرت في ظل حركة فتح في التسعينيات، من حيث أنها غير خاضعة إلى المساءلة، وسلطويّة بآليات ديمقراطية.

بالطبع، جرى باستمرار إطلاق وعود بإجراء انتخابات عامة. ومنذ زيارتي أُتيح في الواقع للجنة الانتخابات المركزية قدراً أكبر قليلا من الحريّة في قطاع غزة. لكن إذا ما وضعنا الاحتجاجات الجماهيرية جانباً، لا أحد يتوقّع أن يتم الاقتراع قريباً. وهذا أمر مؤسف لجميع الأطراف المعنيّة، لأن منح الفلسطينيين صوتاً في شؤونهم الخاصة قد يكون أفضل وسيلة للخروج من المأزق.

سياسة تخلو من الدعابة

"يوم الانتخابات في سابانا" هو كتاب للأطفال يحكي قصة الحياة السياسية في مجتمع من الحيوانات تنتخب ملكها. الأسد – الذي اعتاد، مثل والده وجدّه، على قيادة المجتمع- يخسر أمام تمساح يقدّم وعوداً انتخابية كبيرة. لكن آثام الزعيم الجديد ومحاباته لأقاربه سرعان ماتجعل الحيوانات تتحسّر على اختيارها.

تم بضغط من أجهزة الأمن في غزة، سحب الكتاب بهدوء من رفوف مدارس ومكتبات غزة. لكن، لماذا تعامل حماس كتاب "يوم الانتخابات في سابانا" مثل كتاب "آيات شيطانية" ؟ ربما لأن لون الأسد في هذه القصة أصفر (لون فتح) والتماسيح خضراء (لون حماس). الذين منعوا الكتاب إما أن خيالهم محدود جداً أو واسع جداً: لقد كتب الكتاب باللغة الفرنسية وتُرجم إلى اللغتين الإيطالية والروسية وكذلك العربية. ويبدو أن لاعلاقة للأمر بانتخابات العام 2006 البرلمانية الفلسطينية التي هزمت فيها حركة حماس، الوافدة الجديدة، حركة فتح المهيمنة. لكن مع ذلك بدا أنه وثيق الصلة بقصة رمزية بالنسبة إلى المسؤولين الأمنيين في غزة الذين يفتقرون إلى روح الدعابة.

ومع ذلك، لاتزال حكومة غزة تسمح، مع أنها سلطويّة في هيكلها الواسع، بوجود بعض الأصوات المعارضة والمؤسسات المستقلّة. إنها تتراجع بصورة روتينية في مواجهة الدعاية السلبيّة المحلّية وحتى الجدل الدولي. الأحاديث الشخصية تبدو حرّة الى حدّ ما، لكن يبدو أن الصحف اليومية تقتصر على صحيفة "فلسطين" المؤيّدة لحماس. في بعض الأحيان تكون القيود الإسرائيلية على التجارة مع غزة  هي السبب في عدم وجود المواد المقروءة، وفي أحيان أخرى تكون الحرب الباردة الناشبة الآن بين حكومتي رام الله وغزة، الأمر الذي يجعل حركة حماس معادية للصحف اليومية الفلسطينية الثلاث الموالية لرام الله. ومع ذلك، وكما هو الحال في دول عربية أخرى، يبدو أن القنوات الفضائية المختلفة ومواقع الإنترنت تُبقي السكان المهتمين على اطّلاع.

تكون الحكومة أكثر تقييداً للحريات عندما يتعلّق الأمر بالفضاء العام. إذ يتم تشجيع المظاهرات التي تنظّمها حركة حماس، والتي تنتشر لافتاتها وملصقاتها في كل مكان، أما مظاهرات الحركات الأخرى فتحظر في العادة، وتعرقل بالقوّة أحياناً. ويسمح للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ذات التوجّهات اليسارية، بإظهار نفسها، ولكن بشكل متواضع فقط. وقد أوقف في الآونة الأخيرة مهرجان ثقافي – مهرجان بلفاست الذي جرى فيه استضافة ثوار مصريين زائرين - ربما لأنه قدّم خدماته بصورة أساسية إلى جهات فاعلة غير تابعة لحماس. يمكن، بشكل عام، لأحزاب المعارضة أن تفعل مايحلو لها في غرف الاجتماعات الصغيرة والتحدّث بحرّية في السرّ. لكن لايمكنها أن تعمل بشكل واضح أو علانية.

تمثّل حركة فتح استثناءً، حيث تُعامل على نحو أكثر قسوة بكثير أحياناً -  يمكن أن يتعرّض الأفراد المرتبطون بحركة فتح إلى المضايقات، كما أغلقت المنظمات التي تعتبر مقرّبة من حركة فتح. التنظيم الحزبي المحلي، إلى حدّ كبير، رهينة الحالة العامة للعلاقات بين غزة والضفة الغربية. وعندما تقمع الحكومة في الضفة الغربية حركة حماس، يمكن للحكومة في غزة الردً من خلال مايعترف بعض قادة حماس بأنها مقاربة"العين بالعين". وقد أدّى انتعاش الجهود الأخيرة لتحقيق المصالحة بين حماس وفتح، والتي هي مجمّدة في واقع الأمر، إلى مناخ أكثر تسامحاً، حيث تمثّل ردّ فعل قيادة فتح بمحاولة إحياء التنظيم في قطاع غزة - وإخراج أتباع زعيم حركة فتح السابق في غزة، محمد دحلان، الذي اتُّهم بالفساد والتحريض على الفتنة. لكن لم تظهر لهذا المشروع سوى بعض الآثار العامة الواضحة حتى الآن، باستثناء مشاركة فتح المحدودة في إقامة مدينة خيام مؤخّراً، لدعم الفلسطينيين المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية والتي تم السماح بها، ويا للسخرية، حتى مع أن قادة فتح بدوا منقسمين في موقفهم إزاء هذه القضية الشعبية.

القيود السياسية الأخرى أقلّ وضوحاً بقليل. فالتوظيف الحكومي في غزة يبدو أنه يميل بشدّة لصالح مؤيّدي حماس، تماما مثلما تخلّصت حكومة رام الله من بعض أنصار حماس، وتفحَّصت الأجهزة الأمنية بدقّة الموظفين الجدد المحتملين. لكن مهمّة حماس أصبحت أسهل بكثير عندما أمرت حكومة رام الله، بعد اندلاع الحرب الأهلية، الموظفين ممن هم على جدول رواتبها بالكفّ عن العمل في غزة.

في غضون ذلك، انهارت العملية الانتخابية في قطاع غزة تماماً تقريباً. وقد سُمح للجنة الانتخابات، (مقرّها في رام الله وأعيد تشكيلها في ضوء عملية المصالحة الفلسطينية في وقت سابق من هذا العام)، بإعادة فتح مكتبها، لكن عندما زرتُ غزة، لم يكن قد سمح لها بعد بتسجيل الناخبين في قطاع غزة. الانتخابات المحلية التي تقرّر إجراؤها، ألغيت، وتقرّر إجراؤها من جديد مرّات عدّة في الضفة الغربية، ولم يصدر وعد بإجرائها في غزة حتى تتمكّن حماس من التصالح مع حركة فتح. إجراء انتخابات وطنية غير وارد في ظل غياب اتفاق فلسطيني كامل (وربما موافقة إسرائيلية أيضاً). والنتيجة هي أن بعض الفصائل السياسية الفلسطينية، بدأت في التحوّل جزئياً، وبشكل ناقص جداً، إلى أحزاب انتخابية بعد اثني عشر عاماً على قيام السلطة الفلسطينية، وليس لديها حافز للوصول إلى الجمهور الأوسع. حماس تدفع فقط تكاليف غامضة من سمعتها بسبب تنفيذ سياسات لاتحظى بشعبيّة في قطاع غزة، والنظام السياسي مجرّد تماماً من أي آليّات للمساءلة.

صحيح أن الانتخابات القابلة للحياة لم تكن هي القاعدة في فلسطين التي ليس لها دولة. لكن حتى خلال معظم الأجزاء السلطويّة من حقبة أوسلو في التسعينيات، أجريت مجموعة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وفي أعقاب تلك الانتخابات، كان هناك برلمان عمل - وإن بشكل متقطّع وغير فعّال في بعض الأحيان - على أن يكون وجوده محسوساً، وعلى الإشراف على السلطة التنفيذية. كانت المناقشات العامة نابضة بالحياة في ذلك الوقت، ورتّبت (وإن بشكل نخبوي في بعض الأحيان) مجموعة نشطة ومهنيّة جداً من المنظمات غير الحكومية نفسها على أنها المعادل الوظيفي للمعارضة السياسية.  

المجتمع المدني مستمرّ رغم الصعوبات

لاتزال تلك المنظمات غير الحكومية نشطة حتى لو خفّت صوتها السياسي في الوضع الحالي للسلطويّة الناعمة. فإضافة إلى المنظمات غير الحكومية البارزة التي تعمل في مجالات مثل حقوق الإنسان وسيادة القانون والصحة والتعليم، طوّرت فلسطين أيضاً مجموعة غنية جداً من المنظمات الشعبية أو المجتمعيّة التي توفّر الخدمات الاجتماعية الحيويّة. وقد تطوّرت المنظمات المختلفة على شكل موجات استجابة إلى الظروف المتغيّرة، حيث يعود نشوء بعضها إلى فترة الانتداب البريطاني، فيما يعود نشوء العديد من المنظمات الأخرى إلى عهد قريب جداً.

يمكن النظر إلى المجتمع المدني في فلسطين على أنه يشمل ثلاثة مستويات من المنظمات - منظمات غير حكومية كبيرة قائمة على الصعيد الدولي، فيها موظفون محلّيون في كثير من الأحيان ولكن قيادتها وتمويلها من خارج البلاد؛ ومنظمات غير حكومية محليّة فيها موظفون محترفون، وبتمويل أجنبي أحياناً، ومجموعة واسعة من المنظمات المجتمعية على درجة عالية من المحليّة يتم دعمها بأموال متواضعة، وجهود المتطوعين، أو في الغالب عدد قليل من الموظفين المحترفين، وتحصل على مساعدات دولية في بعض الأحيان. وقد كان أداء كل من هذه المستويات مختلفاً بعض الشيء في ظل حكم حماس في غزة، لكن المجتمع المدني بصفة عامة تأثّر بطرق تجعل أوضاعه أكثر تقييداً وصعوبة.

المنظمات غير الحكومية في فلسطين

تعمل المنظمات غير الحكومية الدولية بحرّية إلى حدّ ما إن هي اختارت القيام بذلك. إذ يمكن للقيود السياسية والقانونية في بلدانها أن تجعل، في بعض الأحيان، تفاعلها مع الحكومة في غزة صعباً. وقد ضغط المسؤولون الحكوميون في بعض الأحيان على المنظمات غير الحكومية الدولية كي تقدّم تقارير أو تسجّل نفسها. ومع ذلك، هذه المنظمات بارزة عموماً بما فيه الكفاية بحيث يمكنها مقاومة أي ضغوط.

المنظمات غير الحكومية المحلّية في وضع يجعلها أكثر عرضة إلى الخطر، خاصّة إذا كانت أقلّ بروزاً. في العادة يطلب إلى المنظمات التي كانت مسجّلة قبل انقسام العام 2007 أن تجدّد تسجيلها لدى وزارة الداخلية في غزة، وأن تتوافق مع متطلّبات إعداد التقارير المالية. وقد امتثل بعضها، لكن منظمات أخرى أصرّت على أن تسجيلها في وزارة الداخلية في رام الله لايزال ساري المفعول.

بُعيد الانقسام مباشرة، بدأت حماس في اتّخاذ إجراءات أشدّ صرامة ضد المنظمات غير الحكومية التي كانت تابعة إلى حركة فتح، أو التي كان يترأسها أفراد موالون لحركة فتح، حيث أغلقت البعض وأغرقت قوائم عضوية البعض الآخر بهدف جعل انتخاب مجالس إدارات مؤيّدة لحماس أمراً ممكناً. مرّة أخرى، كانت المنظمات التي لها حضور محلي ودولي أقوى أكثر استعداداً وقدرة على مقاومة هذه المحاولات الحكومية، وكانت النتيجة أن منظمات حقوق الإنسان ومنظمات عديدة أخرى من التي لها موقف انتقادي قوي استمرّت من دون أن يطالها أي ضرر.

ويبدو أن المظاهر الأكثر قوّة من الحملة الهادفة إلى تدجين المنظمات غير الحكومية تراجعت، على الرغم من أن "منتدى شارك الشبابي"، والذي ربما يكون واحداً من أبرز المنظمات وأفضلها تواصلاً، قد أغلق في العام 2010. وقد تلت ذلك مشاحنات قانونية ممتدّة. "شارك" من الناحية القانونية والرسمية منظمة غير حزبية، ولكن من الواضح أن قادته ليسوا بإسلاميين. وبالمقارنة مع بعض الجماعات الموالية لفتح التي رفضت عرض قضاياها أمام القضاء في غزة لأنها لاتعترف بشرعيّته، حقّق "شارك" ومؤيدوه بعض الانتصارات التكتيكية في المحكمة العليا في غزة، لكن من دون أي تأثير عمليّ.

المنظمات غير الحكومية التي هي في موقف أكثر حرجاً هي تلك التي تعمل في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. ولأنها موضع شكّ في كثير من الأحيان بسبب علاقاتها بالضفة الغربية، يبدو أن لدى هذه المنظمات تجربة متفاوتة. على سبيل المثال، تم قطع وصلة مؤتمر بالدائرة التلفزيونية المغلقة الخاصة بإحدى المنظمات القانونية غير الحكومية البارزة مع قطاع غزة عندما دعت مسؤولين من رام الله إلى توجيه كلمة في أحد المؤتمرات. كما أن تنقّل الأفراد بين الضفة الغربية وقطاع غزة من الصعوبة بمكان بحيث أن أي تنسيق ينبغي أن يتم عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني. بيد أن إدارة الشؤون المالية بين الضفة الغربية وقطاع غزة أسهل بكثير من تنقّل الناس بينهما ذهاباً وإياباً. النظام المصرفي في غزة لايزال يعمل، حيث توافق حماس على مضض على أن أي محاولة لبسط سيطرتها على البنوك في غزة أو للتدخّل في عمليات سلطة النقد الفلسطينية، التي مقرّها رام الله، في غزة سيؤدّي إلى انهيار النظام المالي في غزة لأنه سيجري، وبسرعة، تطبيق العقوبات الدولية الناجمة عن تدابير مكافحة إرهاب حماس في العديد من البلدان. لذلك تستمرّ المنظمات غير الحكومية في غزة في الحصول على الأموال من الضفة الغربية ومن الجهات الدولية المانحة.

لقد لعبت المنظمات المجتمعية التي توفّر الخدمات الاجتماعية دوراً حيوياً في قطاع غزة لبعض الوقت، وأظهرت الحكومة عموماً تقديرها لأنشطتها. لكن مرة أخرى، تعرّضت بعض المنظمات التابعة لفتح إلى المضايقة أو الإغلاق بعد العام 2007، بيد أن السواد الأعظم من هذه المنظمات تجد أن الطلب على خدماتها يتنامى. كما أن تدفق أموال المانحين بعد القتال بين إسرائيل وحماس في 2008-2009، والذي يشير إليه سكان غزة ببساطة على أنه "الحرب"، زاد بصورة مؤقّتة على الأقل الموارد المتاحة لهذه المنظمات.

نقابة المحامين الفلسطينيين

لعلّ أعمق مروحة من التعقيدات ناجمة عن تداخل العديد من المشاكل المختلفة. فالانقسام بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة، والتنافس بين الفصائل، وحكم حماس، وعزل قطاع غزة، كل هذه عوامل تتضافر كي تجعل العمليات صعبة. ويمكن توضيح هذا الموقف الصعب والعقبات التي تواجهها منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في البيئة السياسية الراهنة بشكل كامل من خلال استعراض سريع لنقابة المحامين، وهي هيئة يحتمل أن تكون مهمّة، ومن المفترض أن توحّد المحامين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

استغرق الأمر الكثير من حقبة أوسلو لتشكيل نقابة موحّدة للمحامين الفلسطينيين، وبحلول العام 2000، صارت هناك أخيراً هيئة مترابطة بقيادة منتخبة وفقاً لقانون خاص بمهنة المحاماة. بدأت نقابة المحامين العمل على توفير التراخيص، والتعليم المستمر، والمزايا المهنية (مثل الخطط التقاعديّة والصحية)، وضغطت أيضاً باسم المحامين.

بالتأكيد كانت ثمة مشاكل دائماً. فقضايا مثل فصل نقابة المحامين في الضفة الغربية عن نقابة المحامين الأردنيين، والعمل عبر جميع الفصائل السياسية العاملة في مهنة المحاماة، وصعوبات التواصل بين قطاع غزة والضفة الغربية (بسبب القيود المفروضة على السفر والشكوك المتبادلة على حدّ سواء) أعاقت باستمرار العمل في نقابة المحامين. ويقع مقرّ النقابة الرئيس نظرياً في القدس، حيث لن تسمح إسرائيل لها بالعمل. لكنها تمكّنت رغم كل هذه الصعوبات، من أن تحث الخطى على نحو متعثّر.

ومع ذلك، انقسمت المنظمة في العام 2007، وهو ما أدّى إلى وجود نقابة منشطرة للغاية بالمعنيين السياسي والجغرافي. فقد ظل أعضاء النقابة في الضفة الغربية، وأغلبهم من فتح، موالين لحكومة رام الله، لكن حتى المحامون الزملاء من أعضاء فتح اختلفوا مع بعضهم البعض. لم يقاطع أعضاء مجلس إدارة النقابة في غزة ،  على رغم أنهم في الغالب أيضاً من فتح، المحاكم في القطاع حتى عندما أعادت الحكومة التي تقودها حماس تشكيل المجلس، ما أدّى إلى انقسام سياسي داخل الجمعية. وماجعل محامي نقابة غزة يضعون جانباً انحيازهم إلى فتح، هو إما حاجتهم إلى العمل أو تماهيهم مع غزة.

لم يكن في وسع الجانبين أيضاً الاتّفاق على إجراء الانتخابات المطلوبة قانوناً لتشكيل مجلس جديد. وعندما مضت قيادة النقابة في الضفة الغربية قُدُماً في عملية التصويت، رفض محامو غزة ذلك ونجحوا في الحصول على أمر من المحكمة في غزة بوقف هذه العملية. اضطُرّ محامو الضفة الغربية إلى وقف الانتخابات مع أنهم رفضوا شرعية السلطة القضائية في غزة، وكان من شأن الشروع بالتصويت في الضفة الغربية فقط أن يكون صعباً من الناحية السياسية لأنه سينظر إليه بوصفه تكريساً للانقسام.

أدّت سنوات من التفاوض والوساطة التي قامت بها منظمات قانونية بارزة غير حكومية، وتحسّن الجو الذي وفّرته محادثات المصالحة بين الضفة الغربية وغزة في وقت سابق من هذا العام، إلى التوصّل إلى اتفاق واضح، لبعض الوقت. إذ مضى شطرا نقابة المحامين قُدُماً في إجراء انتخابات مشتركة لإعادة توحيد المنظمة، وجمعا حتى بعض المرشحين التوافقيين. لكن نقابة رام الله ضغطت بنجاح أيضاً على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لإصدار مرسوم بقانون مكّن من تنفيذ الاتفاق، وسمح بأن تمضي الانتخابات قُدُماً في الضفة الغربية فقط إذا لزم الأمر. (في رام الله، يستخدم الرئيس عباس سلطته الدستورية لإصدار مراسيم لها قوة القانون في غياب البرلمان). ادّعى المحامون في غزة بأنهم فوجئوا بالمرسوم، لكنهم قرّروا المضيّ قُدُماً في الانتخابات، ولم يعترض حتى محامو حماس، ولا عضو حماس في مجلس إدارة  النقابة في رام الله المقيم في غزة. لكن اثنين من المحامين الإسلاميين لجآ إلى المحكمة العليا في غزة لمنع هذه العملية ونجحا في الحصول على أمر بوقف الانتخابات في القطاع.

وبما أن الانتخابات أجريت وفقاً لمرسوم رئاسي ينظر إليه على أنه غير شرعي من جانب النظام القانوني في غزة، ماكان ينبغي أن يكون قرار المحكمة مستغرباً. بيد أن ما كان مستغرباً أكثر قليلاً هو أن اتفاقاً سياسياً ظاهرياً تم التوصّل إليه بين حماس وفتح لم يتم الالتزام به، لأن مفاوضي حماس لم يكن في وسعهم منع اثنين من أعضائها من اللجوء إلى المحكمة. بدأت الانتخابات في الضفة الغربية وحدها، ما أدّى إلى ظهور مجلس إدارة تهيمن عليه فتح، وإلى استمرار الانقسام بين رام الله وغزة.

طوال فترة المواجهة، لم يكن هناك قمع قاس أو استخدام للقوة، ولأن أعضاء النقابة من المحامين، فقد جرى خوض الصراعات من خلال الدعاوى القضائية والمطالبات القانونية المنافسة. ومع ذلك، وحتى في جوّ سياسي ملائم على ما يبدو، شلَّت الانقسامات بين الضفة الغربية وقطاع غزة وبين فتح وحماس، وحتى المنافسات داخل كل حركة، إحدى منظمات المجتمع المدني الرائدة وقسّمتها.

الحكم بالقانون، والانتقال إلى القانون، وتأجيل تطبيق الشريعة الإسلامية

حكومة غزة تشبه الدولة تماماً في المجال القانوني، على الأقل بشروط بدائية. إذ أصبح لديها الآن هيكل قضائي فعّال تماماً، وإن لم يكن مثالياً، ونظام مرتجل يمكنه صياغة قدر متواضع من التشريعات المحدودة. بيد أن مشروع إعادة بناء النظام القانوني لايخلو من العيوب أو أوجه القصور من زوايا متنوّعة: فهو لايزال غير مكتمل بسبب الآثار المترتّبة على الانقسام مع الضفة الغربية، وقد أقنع حماس، إلى حدّ كبير، بتأجيل أي أجندة لأسلمة الجتمع، ومكّن في بعض الأحيان، ونادراً ماعرقل، الخصائص السلطويّة لإدارة غزة.

ارتجال الهياكل

عندما تولّت السيطرة الكاملة على غزة في حزيران/يونيو 2007، واجهت الحكومة التي تقودها حماس أزمة فوريّة في قطاع العدالة. فقد كان القضاة والمدعون العامون، وحتى موظفو الحكومة القانونيون، بما في ذلك المكتب الأكثر أهمية في وزارة العدل، ديوان الفتوى والتشريع، جميعاً على جدول رواتب حكومة رام الله. وكانت تلك الحكومة تقول لموظفيها في غزة بأن يبقوا في منازلهم ويتجاهلوا أي توجيهات من السلطات في قطاع غزة.

بعد مواجهة استمرّت أشهراً عدّة ، وضعت حكومة غزة في النهاية، وبسرعة، وسيلة لإصلاح الثغرات. فقد أنشأت مجموعة من لجان المصالحة المحلّية لفضّ النزاعات، ودرّبت أحياناً كوادر حماس من المطّلعين على مبادئ الشريعة الإسلامية لمعالجة مشاكل الأحياء. كما وضعت، وهو الأمر الأكثر أهمية على المدى الطويل، مجموعة كاملة من قضاتها، وملأت المحاكم المختلفة في غزة بموظفين معيّنين من جانبها، مع أن قاضياً واحداً من السلطة القضائية قبل العام 2007 وافق بالفعل على البقاء. كما ملأت حكومة غزة بالمثل جميع المكاتب القانونية الأخرى، بما في ذلك النيابة العامة والديوان. وفي حين كان هؤلاء المعيّنون معروفين في كثير من الأحيان بتعاطفهم مع حماس، فقد طبّقوا القانون العلماني، وليس الشريعة الإسلامية؛ وكان عيبهم الرئيس هو الافتقار الكامل للخبرة.

بعد خمس سنوات، يبدو أن هيكل حماس المرتجل قد نجح. إذ عاد المتقاضون إلى المحاكم. وتبدو اللجان الخاصة بالمصالحة أقلّ نشاطاً، ولم تتطوّر إمكانية أن يتحوّل ذلك الهيكل إلى نظام قانوني كامل بديل. وربما لأن الأحكام الصادرة عن هذه اللجان ليست قابلة للتنفيذ في المحكمة، فإنها تعمل، إلى حدّ كبير، بوصفها جهات تحكيم غير رسمية أكثر منها هيئات شبه قضائية. وأصدرت المحاكم في بعض الأحيان قرارات غير مريحة للحكومة في غزة.

لكن لايزال التدريب القضائي والقانوني محدوداً جداً. وعلى العكس من نظرائهم في الضفة الغربية، وجد القضاة في غزة أنه لاتوجد أموال ولافرص للمشاركة في برامج التدريب في البلدان العربية، ناهيك عن وجودها خارج العالم العربي. وتكثر الشكوك بأن القضاء غير قادر على الصمود أمام ضغوط أفراد يتمتّعون بالقوة، مع أنني لم أتمكّن من التحقّق من أي من هذه الشكاوى، ولم أسمع حتى ادعاءات محدّدة كثيرة.

عقبات باقية

ثمّة ثلاث مسائل قانونية معلّقة لم تتمكّن الحكومة في غزة من التصدّي لها بفعّالية. أولاّ، ليس ثمّة وسيلة مشروعة بشكل واضح لوضع القوانين. ولكن حتى بعد خمس سنوات من حدوث فراغ تشريعي في الضفة الغربية، يتجنّب عباس عموماً، الذي يدّعي أنه يملك سلطة إصدار قوانين بمرسوم في غياب البرلمان، القوانين بمرسوم التي ليس لها صلة بالقضايا الضرورية الملحّة أو بالمسائل الفنّية. ولايتم الاعتراف بهذه المراسيم التي يصدرها أو تطبيقها في محاكم قطاع غزة، لأن حكومة غزة تعتبر أن البرلمان لايزال في دور الانعقاد.

وضعت غزة آلية تشريعية خاصّة بها. إذ يستمر الديوان ومجلس الوزراء، في وضع المقترحات التشريعية ويقدمها إلى البرلمان الذي يجتمع في غزة كل أسبوعين. جميع الأعضاء غير المنتمين إلى حماس يقاطعون البرلمان، ويُحظر على أعضاء حماس في الضفة الغربية دخول قاعة اجتماعات البرلمان في رام الله، كما أن عدداً كبيراً من نواب حماس يقبعون في السجون الإسرائيلية. غير أن النواب المقيمين في غزة من حماس يجتمعون ويدّعون أن لديهم تفويضات من النواب المسجونين، فضلاً عن أنهم يتشاورون مع نواب حماس في الضفة الغربية عن طريق الهاتف. مثل هذه الأجهزة تتيح لهم التأكيد على أن لديهم نِصاباً قانونياً والحصول على أغلبية الأصوات. كان المجلس التشريعي في غزة، على الأقلّ حتى العام 2009 - وهي السنة التي تعتبر غزة أن ولاية الرئيس عباس انتهت فيها – يقدّم القوانين إلى الرئيس عباس الذي يتجاهلها.

ثمّة بند دستوري تم إدراجه بسبب رفض الرئيس السابق ياسر عرفات العمل بموجب التشريع البرلماني يسمح بأن يصبح القانون نافذاً إذا لم يستجب الرئيس له. وقد استخدمت غزة تلك الأداة لتعلن عن سن القوانين، ونشرتها في نسختها الخاصة من الجريدة الرسمية للفلسطينيين، كما أن رام الله لديها نسختها الخاصة من المطبوعة نفسها. ومنذ العام 2009، اعتبرت غزة أن منصب الرئيس شاغر، وهكذا يتم التذرّع بعدم الفعّالية الرئاسية وتدخل القوانين حيّز التنفيذ مباشرة.

وهذا يقودنا إلى القضية العالقة الثانية التي تواجه الحكومة التي تقودها حماس: انقسام غزة والضفة الغربية وضع عقبات حقيقية أمام أي تطوير للقانون الفلسطيني. إذ يتم في الضفة الغربية تجاهل أي قانون أو تنظيم يصدر عن الحكومة في غزة، في حين تردّ غزة الجميل بالمثل. الأحكام القضائية في الدعاوى القضائية التي تصدر في قطاع غزة لا قيمة لها في الضفة الغربية، في هذا الصّدد، ويجاهر المسؤولون القانونيون في غزة بأنهم أكثر تعاوناً ويدّعون بأن محاكم غزة طبّقت أحياناً الأحكام الصادرة في الضفة الغربية. المنافسة قد تكون مزعجة أو تافهة أحياناً: بما أنه يُشار إلى القوانين بالرقم والسنة، فهذا يعني أن هناك قانونين مختلفين تماماً يطلق عليهما "القانون الرقم 1 لسنة 2008"، وهو تطوّر من المرجّح أن يسبّب صداعاً لأي مسؤول معيّن للعمل على إنجاز المصالحة إذا ما استُؤنفت الجهود في هذا السياق.

بيد أن هناك تأثيراً أكثر أهمية للمسارات القانونية المختلفة. فأي تشريع قانوني تتّخذه أي من الحكومتين يباعد بين الكيانين أكثر فأكثر. وبما أن الانقسام لايحظى بشعبية بين الفلسطينيين – وهناك شعور عام بين الجميع، باستثناء الأكثر حزبية، بأن فتح وحماس فشلتا في التصالح لأنهما تعطيان الأولوية لمصالح حركيتهما وتقدّمانها على القضية الوطنية – فإن التشريع الشامل غير مستساغ سياسياً. ولذا، في ظل وجود عدد قليل من الموظفين لايزالون عديمي الخبرة، ومجموعة من الإجراءات المشكوك فيها دستورياً لوضع القوانين، كبحت غزة عموماً، على غرار رام الله، شهيتها التشريعية لصالح الأمور الفنية والضرورية.

ثالثاً، لايزال يتعيّن على حماس، وهي حركة إسلامية باعتراف الجميع تشارك الآن في السلطة في ظل عدم وجود طرف آخر أو حركة أخرى في غزة، تأجيل أي جهود لأسلمة النظام القانوني الفلسطيني. ومن شأن أي خطوة نحو أسلمة القانون أن تجلب إدانة دولية، والأهم من ذلك، تذمّراً محلّياً.

إن تعيين قضاة مدربين بشكل علماني في غزة يوفّر أدلّة دامغة على وجود اتجاه قوي لتجنّب أسلمة خطيرة للقانون، أبقت الحكومة في الواقع على قاضية واحدة، وعيّنت امرأة ثانية وهي خطوات ربما ترفض الحركات الإسلامية الزميلة في المنطقة القيام بها. دور لجان المصالحة آخذ في التراجع أيضاً حيث يعالج القضاة من ذوي التدريب العلماني كمّاً أكبر من القضايا. وقد جرى تخفيف محاولات ضبط الأخلاق العامة، حيث يربط سكان غزة في كثير من الأحيان الإجراءات المصرّح بها رسمياً، لكن الخارجة عن نطاق القانون، بالظروف الاقتصادية: عندما يكون مستوى الاستياء العام عالياً، تتراجع حماس.

كان أوضح دليل على ذلك هو تأجيل مشروع لكتابة قانون جنائي جديد، وإحجام كل مسؤول تحدثت إليه حتى عن تناول الموضوع. إذ لاتزال غزة تستخدم قانوناً جنائياً يعود إلى عهد الانتداب البريطاني، ولدى الضفة الغربية قانون ورثته من الحكم الأردني. في حقبة أوسلو عمل البرلمان على قانون جنائي موحّد بدا أنه يستفيد إلى حدّ كبير من المصادر العربية التي تستفيد بدورها من القوانين الأوروبية، حتى أن البرلمان أقرّ مشروع قانون في قراءته الأولى. لكن غضب علماء الدين على القرار القاضي بالاعتماد بشكل أساسي على مصادر غير إسلامية أثار في النهاية محاولة من جانب البعض لصياغة مشروع قانون قائم على الشريعة. عُقدت بعض ورش العمل في غزة حول هذا الموضوع، وأظهر بعض البرلمانيين بوضوح اهتماماً بهذا الجهد. لكن يبدو أن الاندفاع المفاجئ نحو مثل هذه الأسلمة الشاملة - وفي خطوة لم تنعكس في الضفة الغربية - غير وارد الآن على الصعيد السياسي.

قد يكون لدى غزة الآن هيكل قضائي فعّال تماماً، وإن لم يكن مثالياً، ونظام مرتجل يمكنه وضع كمّ متواضع من التشريعات المحدودة، لكن يتعيّن على هذه الأنظمة أن تعمل ضمن قيود ضيّقة فرضها الانقسام والقيود السياسية الأخرى. النظام سلطوي بما لايدع مجالاً للشك. ولا توجد آلية جدّية للرقابة الديمقراطية ولا حتى لإجراء مشاورات ذات مغزى مع مجموعات خارج حركة حماس. وقد استخدمت الحكومة الأدوات المتاحة لها - مثل شروط الترخيص وتقديم التقارير بالنسبة للمنظمات غير الحكومية، كما هو مبين أعلاه - لمراقبة الأصوات المعارضة. وحيث لم تكن الأدوات القانونية موجودة، عملت في كثير من الأحيان على أي حال، على إغلاق الاجتماعات، واحتجاز الأفراد، وحظر المشروبات الكحولية، ومضايقة المعارضين، والانخراط في منافسة العين بالعين مع حركة فتح.

التعليم: إدارة الانقسام

وبالمثل، أدارت الحكومة في غزة النظام التعليمي، الذي تعافى من المشاكل الأوّلية الشديدة الناجمة عن الانقسام. وكما هو الحال مع القانون، ثمّة قيود على ما يمكن للحكومة القيام به، لكنها مختلفة نوعاً ما في طبيعتها. وتتولّى إدارة جزء كبير من النظام التعليمي في قطاع غزة منظمة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا)، وليس الحكومة. يدرس مايقرب من 43 في المئة من الطلاب في قطاع غزة في مدارس أونروا، لكن بما أن تلك المدارس توفِّر التعليم حتى الصف التاسع فقط، فإن أونروا تعلّم في الواقع الغالبية العظمى من الطلاب في السنوات التي تغطّيها. وبما أن الوكالة تتبع المناهج الدراسية في الضفة الغربية، ولأن الشهادات المصدّقة من الضفة الغربية تحظى بقبول أكثر على الصعيد الدولي، فقد وجدت الحكومة في غزة أنها مضطرّة إلى التنسيق مع رام الله حول القضايا التعليمية. ومع ذلك، كان من اللافت أن المسؤولين في قطاع غزة طبقوا شعار الضرورات تبيح المحظورات في المجال التعليمي.

واجهت حرب العام 2007 الأهلية، التي تلاها إضراب موظفي الخدمة المدنية، الحكومة التي تقودها حماس بضرورة تعليم مئات الآلاف من تلاميذ المدارس بجزء فقط من كتلة المعلمين العاملين سابقاً. وكما هو الحال في قطاع العدالة، قرّرت حكومة رام الله دفع رواتب المدرسين في غزة ممّن لم يذهبوا إلى العمل، وهو ما أثبت أنه نكسة مؤقّتة، ولكن فرصة على المدى الطويل للحكومة الجديدة في غزة.

وفّرت هذه الخطوة الكثير من المال لحكّام غزة الذين يعانون من ضائقة مالية. فقد كان عليهم أن يدفعوا رواتب المدرسين الذي كسروا الإضراب وحضروا إلى مقرّات عملهم، وبالتالي قامت رام الله بفصلهم. وكانت الحكومة أيضاً حرّة في توظيف أنصارها لملء الثغرات ودفع رواتب مدرّسين مبتدئين لهم، وتحويل مهنة التعليم أساساً إلى دائرة من الأنصار بدل أن تكون جيباً للمعارضة. وعندما ألغت رام الله في نهاية المطاف إضراب لمعلمين والعاملين في المجال الصحي، سمحت غزة للمدرسين الذين تريدهم فقط بالعودة إلى العمل، ومع ذلك تعيّن على رام الله تسديد فاتورة رواتب المدرّسين العائدين. كان على حماس فقط أن تدفع رواتب المدرّسين الذين وظّفتهم. ونتيجة لذلك، لم تواجه حماس أي مشكلة مع نشاط المدرسين في دويلة غزة.

لكن إذا كانت حماس قد نجت من العاصفة ووجدت وظائف لأنصارها في سياق العملية، فقد اكتشفت أنها لاتسيطر بشكل كامل على نظامها التعليمي. وجود أونروا يُدرِج عنصراً لا يمكن السيطرة عليه وسط قطاع غزة، وهو عنصر يقدّم خدمات لاغنى عنها. تم تكليف أونروا باستخدام منهاج الحكومات المحلّية. وبما أن رام الله لاتزال مقبولة دولياً أكثر من غزة، فسيكون من غير الوارد سياسياً أن تتحدّى هيئة تابعة للأمم المتحدة رغبات معظم الدول الأعضاء ومعاملة قيادة غزة، بدلاً من رام الله، باعتبارها موثوقة. في الواقع هذا يعني أنه لو أجرت غزة أي تغييرات في المناهج الدراسية، فإن هذه الخطوة ستقسم المدارس في قطاع غزة الصغير. إذ تنسّق أونروا مع الحكومات المحلّية ووزارة التربية في غزة، بيد أن من الواضح أنها لاتتبع توجيهاتها، لا بل هي أدخلت، من جانب واحد، منهاجاً متوتّراً إلى حدّ ما، لحقوق الإنسان في مدارسها؛ كما أنها تتلقّى معلومات من وزارة غزة لكنها لاتتعامل معها باعتبارها موثوقة. وقد اتّخذت أونروا خطوات أخرى أزعجت بعض العناصر في حركة حماس، مثل رعاية برنامج صيفي مختلط بين الجنسين (إلى أن استُنفِد التمويل الدولي)، ومنع أي نشاط سياسي في المباني التابعة لها. من الصعب قبول هذا بالنسبة إلى حكومة تظهر نزعة قوية لتنظيم مجتمع غزة والحفاظ على أمنه.

حكومة حماس مقيّدة أيضاً بسبب ضرورة التنسيق مع الضفة الغربية كي تكون الشهادات التي تم الحصول عليها في غزة محترمة دولياً. وقد اتّخذت معظم الحكومات في العالم العربي قراراً سياسياً بالانصياع إلى وزارة التربية في رام الله عندما يتعلّق الأمر بقبول الشهادات والدرجات العلمية. لم تفوّت مصر والأردن على وجه الخصوص الفرصة السياسية للضغط على حماس من خلال عدم قبول أن تصدر سلطتها الشهادات من تلقاء نفسها.

ومع ذلك، إذا كانت أونروا ورام الله قيّدتا قدرة الحكومة التي تقودها حركة حماس على وضع السياسة التعليمية في قطاع غزة، فقد عمل مسؤولو التعليم ضمن تلك القيود وحتى استخدموها على نحو فعّال. التعليم الذي توفّره أونروا ورواتب المعلمين التي تدفعها رام الله جعل عبء هذه المدارس محتملاً بالنسبة إلى الحكومة في غزة. وبهدوء شديد، نجحت وزارتا التربية في العمل مع بعضهما البعض وحتى التشاور والتنسيق على كل المستويات باستثناء المستوى السياسي الأعلى. بعد بعض المناورات الأولية، وضعت الوزارتان معاً درجات الامتحان، وأصدرتا نتائج التوجيهي، وهي امتحانات المرحلة الثانوية التي تعتبر حاسمة لتقييم الطلاب والقبول في الجامعات. عملت الوزارتان أيضاً على تقييم المناهج الدراسية الحالية وإجراء تغييرات متواضعة.

على مدى العام المقبل، قد يتم إعداد تعديلات أكثر شمولاً. إذ يلتزم المسؤولون في الجانبين الصمت حول التفاصيل لأن الجهود التعاونيّة حساسة من الناحية السياسية، وسيجري التعامل مع أي حديث عن اقتراح قيد التطوير من أحد الجانبين من قبل الطرف الآخر باعتباره أحادياً وغير مقبول. حدث هذا في الواقع عندما تحرّكت وزارة التربية في قطاع غزة لإدخال اللغة العبرية في المناهج الدراسية كمادة اختياريّة، وهي خطوة تمت الموافقة عليها من حيث المبدأ منذ سنوات ولكنها لم تطبّق أبداً. لكن تجري مناقشة إعادة تصميم مناهج التوجيهي، وإمكانية إقرار منهاج منقّح للتربية المدنية.

بالطبع، لايتم نسيان كل مظاهر الانقسام في المجال التعليمي. إذ لازال يتعيّن على المتقدمين من غزة للحصول على وظائف في جامعة الأزهر - ينظر إليها في بعض الأحيان على أنها معقل لحركة فتح – أن يعتمدوا شهاداتهم في رام الله. وفي الوقت نفسه، تتطلّع الجامعة الإسلامية – هي أكثر ودّاً تجاه حماس - إلى غزة للاسترشاد بها فقط.

عموماً، عندما يتعلّق الأمر بالتعليم، تتصرّف القيادة في غزة كدويلة أولاً وكحركة إسلامية ثانياً. وعندما تم إدخال المناهج الفلسطينية الجديدة قبل أكثر من عشر سنوات، حدّق بعض النقّاد الإسلاميين في الكتب لمعرفة ما إذا كان هناك عدد كبير جداً من النساء السافرات، أو طلبوا أن يتمحور تدريس حقوق الإنسان حول الشريعة الإسلامية بدلاً من الوثائق الدولية لحقوق الإنسان. وفي حين لايزال معارضو الحجاب موجودين، فإن النبرة الشاملة للنقاش التعليمي في غزة تركّز أكثر على مسائل الإدارة والميزانيات واحتياجات العمل أكثر من تركيزها على أسلمة المجتمع.

الذين لا صوت لهم في غزة

في آذار/مارس 2006، أجريتُ مقابلة مع ناصر الدين الشاعر، نائب رئيس الوزراء ووزير التربية الجديد في الحكومة التي تقودها حماس في بهو أحد فنادق رام الله. توقّفت المقابلة بسبب مكالمة على الهاتف الخلوي. وفيما كان يردّ على تلك المكالمة، رنّ هاتف ثانٍ، وكان إسماعيل هنية يتّصل من قطاع غزة. نظر الشاعر إليّ بخجل، حيث كان يضع هاتفاً خلوياً على كل أذن، همس قائلاً: "انظر. نحن بالفعل فاسدون"! إذا كان هاتفان محمولان شكّلا فساداً في العام 2006 - في الوقت الذي كان فيه أعضاء البرلمان من حماس يستقلّون سيارات أجرة مشتركة، ويركب الوزراء الحافلات الكبيرة في رحلات خارجية نادرة جداً، ويُطلب إلى جميع أعضاء حماس ممن يتولّون مناصب في الحكومة الاستقالة من أي مناصب قيادية داخل الحركة – ومن ثم تغيّرت المعايير.

ليس بالضرورة أن يكون الفساد والكسب غير المشروع لافتاً للنظر جداً في غزة، على الرغم من كثرة الشائعات، وخصوصاً حول الرشى والتورّط في المخدّرات غير المشروعة من جانب المسؤولين الحكوميين. بيد أن تداخلاً عميقاً ومتعدّد الطبقات تطوّر بين حركة حماس والحكومة في غزة. أي من الواضح أن حماس والحكم ليس زواجاً في لاس فيغاس (أي سريع النهاية)، والسؤال هو ما إذا كان زواجاً كاثوليكياً (أي أبدياً).

حماس لم تتحوّل من حركة الى حكومة، بل لاتزال حركة وحكومة على حدّ سواء بوسائل خرقاء ولكن مستدامة. الأمر الذي يبدو أنه لايمكن إنكاره هو أن حماس تمسّكت بإدارة دويلتها في المدى القصير والمتوسط، وتخلّصت من مخاوفها إزاء حقيقة أنها أصبحت متشابكة بشكل وثيق مع الهياكل الرسمية إلى حدّ أن تتبع مصير حركة فتح. فقد أصبحت منافسة حماس ( فتح ) متماهية بشكل وثيق مع السلطة الفلسطينية خلال التسعينيات إلى الحدّ الذي جعلها تبدو أقلّ حيويّة بكثير خارج الحكومة، وفقدت بوصلتها تماماً عندما فقدت السلطة الفلسطينية الدعم المحلي.

عندما جاءت الى السلطة في العام 2006، قالت حماس أنها لن تفعل الشيء نفسه، وأنها ستبقي الحركة والحكومة منفصلتين دائماً. لكن منذ العام 2007 أصبح من الصعب الفصل بين حركة حماس والحكومة في غزة. إسماعيل هنية مثال على ذلك. هو يعمل الآن رئيساً للوزراء في قطاع غزة وأيضاً كزعيم حركة قوية نتيجة لانتخابات حماس الداخلية لعام 2012، وعندما يتّخذ قراراً، ليس من الواضح ما هو الطرف الذي يمثّله. الموالون السياسيون يحتكرون المناصب الرسمية، وتشكّل اللحية المشذّبة بشكل تام لأنصار حماس (لكنها أقلّ شيوعاً في شوارع غزة مما كنت أتوقع) فعلياً جزءاً من الزي الرسمي للشرطة.

ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى أي أفكار تدعو إلى المساءلة هو التّعتيم المستمر على هياكل القيادة واتّخاذ القرارات في الحركة. في الانتخابات الداخلية الأخيرة التي أجرتها، كان هناك ستار من السريّة على مرشحي وناخبي حماس، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى النتائج. حماس لاتزال في العديد من النواحي حركة سريّة، حتى عندما انتقلت الى المكاتب الوزارية.

يبدو أن الوقت تباطأ بالنسبة إلى الحركة، حيث استبدلت الوتيرة السريعة لوقوع الأحداث التي تلت فوز حركة حماس في الانتخابات في العام 2006 - تشكيل الحكومة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وانقسام العام 2007، وإعادة بناء دولة غزة، وحرب 2008-2009 مع إسرائيل - بالتحرّك العسير للتطورات البطيئة من شهر إلى شهر. وفي حين تندلع الأحداث الدرامية في مصر المجاورة، ينتظر الفلسطينيون الجهات الفاعلة في أماكن أخرى لإعادة تشكيل العالم الذي يعملون فيه.

هذه مجرّد واحدة من الوسائل العديدة التي أصبحت حماس تشبه فيها فتح إلى مدىً محدود، لكنه مع ذلك غير مريح. تم تشكيل الحركتين منذ عقود، وكرّستا نفسيهما لضمان أن يتمكّن الفلسطينيون من التصرّف من تلقاء أنفسهم والتحكّم بمصائرهم. الآن تنتظر الحركتان بصبر يدعو إلى الدهشة الجهات الفاعلة الخارجية. تعتمد رام الله على دعم الولايات المتحدة الدبلوماسي الذي قد لايصل أبداً والمساعدة المالية الأوروبية كما لو أنها لن تنضب، وينتظر قادة غزة، بوضوح تقريباً، المدّ الإسلامي المتزايد في مصر ودول أخرى لإنقاذ قاربهم. لايبدو أن أيّاً من الحركتين قلقة من أن تلتحق بالآثار الفلسطينية التي تكتنفها طبقات عميقة من الهياكل المؤقّتة، والمؤسسات الطارئة، والترتيبات الخاصّة، والتي يصل عمر بعضها إلى أجيال عدّة.

ومع ذلك، أوجه التشابه بين فتح وحماس ليست بلا حدود. إذ لم تُبدِ حماس سوى القليل من المؤشّرات على الشخصانية والغِيبة وهي السمات التي نمت إلى مستويات متدهورة في حركة فتح بقيادة عرفات. عندما فقدت فتح زعيمها مدى الحياة، تفكّكت الحركة، لكن حماس فقدت بالفعل أكثر مؤسّسيها، واستمرّت على الرغم من الصعوبات. لاتزال لديها قيادة جماعية قابلة للحياة، مع أنها قيادة تظهر أنواعاً جديّة من التوتر في القمّة، وإن كان يمكن التحكّم بها إلى الآن - كما أظهرت المشاحنات العلنيّة خلال الأشهر القليلة الماضية - وكذلك نوبات التنافر وعدم الاتّساق في المستويات الدنيا، والتي أظهرتها انتخابات جمعية المحامين في غزة. وتبقي حماس على تركيز إيديولوجي أكثر وضوحاً. ومع أن مجموعة الآراء داخل الحركة كبيرة، إلا أنها لم تقع في فخّ عدم الاتساق الذي وقعت فيه حركة فتح.

ما الذي سيغيّر الأمور؟

حماس متحصّنة جدّاً في غزة لدرجة يصعب معها تصوُّر حدوث أي تغيير أساسي قريباً. يمكن في الواقع لجولة أخرى من الحرب إحداث التغيير في غزة، لكن حتى قسوة الحرب الأخيرة لم تغيّر كثيراً في المشهد السياسي الداخلي. ثمّة مساران آخران ربما يكونان سبيلين محتملين لمعالجة الأزمة في صميم الحياة السياسية الفلسطينية.

كان الخلاف الذي نشأ بين المنطقتين في العام 2007 مصدراً لكثير من الصعوبات في غزة. سدّ هذه الثغرات من خلال جهود المصالحة يمكن أن يقطع شوطاً طويلاً. فقد التزمت القيادتان بمثل هذا المسار في مناسبات عدة ، وانطوت الجهود التي بُذلت مؤخّراً في الواقع على بعض العناصر الواعدة: بدا أن ثمّة بعض الاهتمام الصادق من كلا الجانبين، وبدأت المفاوضات تخوض في التفاصيل العمليّة، وتم إدخال فصائل ومستقلين آخرين في العملية. تحقّقت بعض النتائج الحقيقية كذلك. فقد ظهر انفراج طفيف على مستوى القيادة وأجواء سياسية أكثر تساهلاً. لكن تلك الجهود توقّفت، وذلك جزئياً نتيجة الصراعات على السلطة داخل كل معسكر، وخاصة، ولكن ليس على سبيل الحصر، في حركة حماس.

حتى لو كان الالتزام أقوى، فإن الصعوبات العمليّة تظلّ عديدة وهائلة. ليست اللوائح الصغيرة وسلاسل القيادة الإدارية هي التي يتعيّن تسويتها فقط، حيث إن من شأن أي محاولة لرأب الانقسام أن تتعارض مباشرة مع المصالح ذات الطابع المؤسّسي العميق. على سبيل المثال، سعت الحكومتان إلى زيادة قدراتهما الإدارية وأدوات القمع والدعم السياسي من خلال توظيف أنصارهما. وبما أن من المرجّح أن تكون للمصالحة بعض الآثار على التمويل الخارجي للسلطة الفلسطينية، فقد يشعر الجانبان بأنهما سيتكبّدان أيضاً ثمناً باهظاً لأنهما ربما لايكونان قادرين على دفع كل الرواتب.

 أكثر من ذلك: على الرغم من كل الضغط السياسي من أجل الوحدة – وهو ضغط قوي جداً – فأن هناك انقسامات اجتماعية عميقة بين الضفة الغربية وقطاع غزة تتجاوز الفكر والسياسة. إذا ما تمّت المصالحة بين الجانبين، فستبدأ على الأرجح كعمليّة محدودة وبطيئة يتم السماح لها بالمضي قُدُما على وجه التحديد بالوسائل التي تسبّب أقلّ قدر من الإزعاج للمصالح والترتيبات السياسية القائمة. هذه "المصالحة" سترقى حقاً إلى كونها تسوية مؤقّتة تهدف إلى جعل الوضع الحالي سهل القياد بدلاً من حلّ الانقسام.

ثم هناك الانتخابات. فالتأثيرات المفيدة لتجديد عملية التصويت الفلسطيني عديدة. إذ ستضطرّ كل من القيادتين لتغيير وجهتها نحو التماس دعم الشعب بدلاً من إدارة شؤونها بنفسها بكل بساطة. إذ من المرجّح أن تتصرّف حركة حماس، التي يتعيّن عليها أن تطلب أصوات الفلسطينيين، بشكل مختلف، وتهتم بالرأي العام، وتعبّر عن رؤيتها الإستراتيجية، وتسعى إلى إقناع من هم خارج الدوائر الإسلامية. أما حركة فتح التي تواجه الحاجة نفسها فإما ستضطرّ إلى التكيّف أو تستمرّ في الاختفاء البطيء من المشهد.

بيد أن العقبات التي تعترض سبيل الانتخابات أكثر عمقاً من تلك التي تعترض المصالحة. ثمّة بعض الصعوبات العملية - الماكينة الانتخابية الفلسطينية معطوبة ولكنها ليست عصيّة على الإصلاح. ستكون موافقة إسرائيل ضرورية، بيد أنه سيكون من الصعب تصوّر أن يكون ردّ فعل القيادة الحالية للبلاد على انتخابات تنافسية وذات مغزى أكثر من تهديد إستراتيجي. الأهم من ذلك أن الانتخابات ستواجه العقبات كافة التي ستواجهها المصالحة، على وجه التحديد لأن الانتخابات تتطلّب قدراً من المصالحة.

إن السماح للفلسطينيين بالعودة إلى صناديق الاقتراع سيكون محفوفاً بالمخاطر بالنسبة إلى حماس وفتح وإسرائيل والرعاة الدوليين لعملية السلام المتأخّرة. لكن طالما أن سكان غزة - وجميع الفلسطينيين - لاصوت لهم في شؤونهم الخاصة، من الصعب أن نرى أي طريق إلى الأمام. وتظل الحقيقة أن الانتخابات ليست في مصلحة حماس في الوقت الراهن، حيث سيتعيّن تملّق الحركة وهزيمتها أو إغواؤها بطريقة أو بأخرى. يبدو أن حماس ليست في عجلة كثيراً من أمرها، ما يترك سكان غزة ليس من دون صوت فقط، بل أيضا من دون كبير أمل في التغيير.