في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، أصدرت مجموعة من القادة المتمرّدين السوريين بياناً مصوّراً في شريط فيديو أحدث صدمة لدى أطياف المعارضة السورية. ندّد الرجال الذين ادّعوا أنهم يمثّلون الجماعات المتمرّدة الرئيسة في منطقة حلب، والذين تحلّقوا حول طاولة مؤتمرات تحت راية إسلامية سوداء، بقيادة المعارضة السورية الجديدة في المنفى، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بوصفها "مشروعاً تآمرياً". وأعلنوا أنهم توصّلوا بدلاً من ذلك إلى "إجماع على إقامة دولة إسلامية عادلة". 

إن السيطرة على مدينة حلب، أكبر مدن سورية، مهمة بالنسبة إلى المعارضة السورية، ولذا كان هذا التحدّي الواضح للائتلاف الوطني ليثبت أنه مصيري بالنسبة إلى شرعيّة هذا الأخير. وقد هدّد أيضاً بتقويض آمال مؤيّدي الائتلاف الغربيين والخليجيين بتشكيل حكومة فعّالة في المنفى. 
 
لقد أوشكت المكاسب التي حقّقها المتمرّدون في مدينة حلب وحولها أن تقطع خطوط الإمداد عن حامية النظام الكبيرة في المدينة، ومن المحتمل جداً أن تسقط المدينة في يد المعارضة خلال العام 2013. وإذا ماتمت إقامة حكومة ثورية منافسة في مدينة حلب، فليس ثمّة أمل لجماعة معارضة في الخارج أن تنافسها على الشرعية والنفوذ. لكن في غضون أيام، تحوّل إعلان 18 تشرين الثاني/نوفمبر حبراً على ورق. ومع ذلك، عكست هذه التجربة الطبيعة المتغيّرة للمعارضة.

جبهة إسلامية غير موجودة

ضمّ الداعمون الأربعة عشر المزعومون لبيان 18 تشرين الثاني (نوفمبر) طيفاً إيديولوجياً متنوّعاً يتراوح بين التيار السنّي الرئيس غير الإيديولوجي، مثل لواء أحرار سورية، وهو فصيل من الجيش السوري الحر في شمال غرب حلب، وبين الجماعات ذات الميول الإسلامية، مثل لواء التوحيد (أكبر جماعة في المحافظة)، وعدد من التنظيمات الجهادية الصغيرة، بما في ذلك جبهة النصرة وكتائب أحرار الشام وحركة الفجر الإسلامية. 
 
غابت عن الاجتماع بعض الوحدات التي تعتبر مُقرَّبة من المجلس العسكري في حلب، ومنها لواء الفتح التابع للجيش السوري الحر. فالمجلس العسكري في حلب المُعادي للجماعات الجهادية، يتبع القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية، وهي من بين المُطالِبين بتولّي قيادة الثورة السورية. وهذان التحالفان يعملان بمثابة قناتَين للأموال الخليجية المُرسَلة إلى حركة التمرّد بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
 
لكن على الرغم من غياب هذه الجهات عن الاجتماع، مثّلت المجموعة التي أطلقت البيان  الجزء الأكبر من المقاتلين المتمرّدين في المنطقة. وبوصفهم حكاماً محتملين لحلب في المستقبل، لايمكن النظر إلى بيانهم بخفّة.
 
تصوّر بعض المراقبين الخارجيين أن المتمرّدين "أعلنوا من جانب واحد قيام دولة إسلامية في ساحة المعركة الرئيسة في حلب"، لكنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا القبيل. فقد أعرب بيان 18 تشرين الثاني/نوفمبر عن دعمه القوي للحكم الإسلامي كهدف مشترك – وهو أمر غير مستغرب كثيراً، نظراً إلى التأثير الإسلامي القوي على حركة التمرّد – ولكنه لم يُشِر إلى أن داعميه يتوقّعون إقامة هذه الحكومة الدينية عما قريب.
 
في الواقع، حجب التركيز على الجزء الخاص بـ"الدولة الإسلامية" من النص مضمونه الأهم: الرفض المطلق للائتلاف الوطني. فالمقاتلون داخل سورية منزعجون مما يعتبرونه محاولة من جانب مجموعة من المنفيين المدعومين من الغرب للمطالبة بمكاسب المعركة التي ضحّوا بالكثير من الأرواح من أجلها.
 
ومع ذلك، يبدو أن الحسابات البراغماتية أهمّ من عملية لفت الانتباه الدينية والسياسية. وتبدو معظم الجماعات المسلحة الرئيسة في حلب أكثر حرصاً على كسب الود المالي للغرب ودول الخليج، منها على التحالف مع تنظيم القاعدة.
 
هذا يفسّر الحلّ السريع لأحجية بيان 18 تشرين الثاني/نوفمبر؛ إذ يبدو أن العيب الرئيس فيه يكمن في عدم استناده إلى تأييد حقيقي أنه كان سيئ التأثير بين المجموعات الداعمة له. ويبدو أن جبهة النصرة قد أقحمته عليهم على سبيل المفاجأة، على أمل أن يقبلوا به كأمر واقع. فوفقاً لمصدر له صلات جيدة في صفوف الفصائل المسلحة في سورية، "اتصلت الجماعة الجهادية ببعض أفراد الصف الثاني والثالث في بعض الجماعات وأقنعتهم بالانضمام إلى البيان، من دون علم رئيس كل مجموعة أو رئيس المجلس العسكري". 
 
سارعت معظم الجماعات الأخرى إلى النأي بنفسها عن البيان. وبدا أن بعضها شعر بالصدمة بسبب الضجة الإعلامية التي تحدثت عن "دولة إسلامية". وتراجعت مجموعات أخرى لتجنّب الارتباط بالمعسكر الإسلامي المتشدّد، أو حرصاً منها على الإبقاء على الدعم الذي تحصل عليه من الناشطين المدنيين. في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، أصدر مجلس قيادة الثورة في حلب ردّاً حازماً، قال فيه إن مستقبل سورية "يجب أن يتقرّر من خلال التصويت الحر في صناديق الاقتراع، وليس بقوة السلاح"، وأشاد بالائتلاف الوطني بوصفه "خطوة أساسية نحو توحيد صفوف الثورة".
 
ربما خشي قادة المتمرّدين أيضاً أن تنعكس معارضتهم العلنية الائتلاف الوطني، الذي يرتبط بشكل وثيق مع قطر وغيرها من الأعضاء البارزين في مجموعة أصدقاء سورية التي تدعم المعارضة السورية، سلباً على حظوظهم الاقتصادية. فالعديد من الجماعات المسلحة في المنطقة يتلقّى دعماً من المجلس العسكري في حلب، الذي يحظى بتأييد غربي. لذلك، من شأن قادة المتمرّدين الذين يعتمدون على هذه المجموعة من الرعاة الخارجيين أن يكونوا حذرين من مهاجمة الائتلاف الوطني، لأنه يحظى بدعم الكتلة نفسها من الدول.

حلّ أحجية بيان 18 تشرين الثاني/نوفمبر

لم يستغرق الأمر سوى بضعة أيام لحلّ أحجية إعلان 18 تشرين الثاني/نوفمبر. فقد ادّعى لواء أحرار سورية، الذي كان من بين أول المتراجعين، أن اسمه أُدرِج في الإعلان "عن طريق الخطأ"، وقال إن الأمر متروك للشعب لـ"تحديد شكل الدولة السورية"؛ وأكّد أحد قادة الجماعة ترحيبه بإنشاء الائتلاف الوطني. واعترف فصيل آخر، لواء درع الأمة، بأنه وقّع على بيان 18 تشرين الثاني/نوفمبر، ولكن فقط للتعبير عن دعمه لـ"دولة عادلة تضم جميع أطياف الشعب السوري، من جميع الفئات الدينية والعرقية". وأدان المقاتلون التركمان في لواء السلطان محمد البيانَ قائلين إنهم يريدون "دولة مدنية تستمدّ قوانينها من الشريعة الإسلامية"، وأعربوا عن تأييدهم القوي للائتلاف الوطني.
 
كذلك، حتى بعض السلفيين رأوا أنه جرى استغلالهم. فقد نفت كتائب أحرار الشام في البداية، أكبر شبكة للجهاديين المحليين في سورية، أن تكون وقفت وراء البيان، لكنها أوضحت في وقت لاحق أن "بعض الإخوة أنتجوا هذا البيان من واقع حبهم الصادق لدينهم والخوف من اختطاف المكاسب التي حققها جهادهم". أما بشأن الائتلاف الوطني، فقد أشار أحرار الشام ببرودة، ولكن بشكل صحيح، بالقول: "لم نُستَشَرْ بشأن إنشائه وليس لدينا أي اتصال مع أعضائه، سواء من الناحية التنظيمية أو من خلال التحالفات". 
 
بعد بضعة أيام، انضمت حركة الفجر الإسلامية إلى كتائب أحرار الشام، وادّعت أيضاً أنها لم تدعم البيان قط. وفي حين تدعم الجماعة إنشاء حكومة دينية، تؤكّد أنه لم يُعقَد حتى الآن "اجتماع جرى فيه تأسيس الدولة الإسلامية". كما أكّدت مجدداً مقاومتها أي "مشروع تآمري" مدعوم من الخارج، من دون إشارة صريحة إلى الائتلاف الوطني.
 
في المقابل، نشر لواء التوحيد إعلان 18 تشرين الثاني/نوفمبر على موقعه الرسمي على الإنترنت، ماجعل من الصعب إعادة سبب دعمه للبيان إلى سوء فهم. لكن ذلك لم يهمّ كثيراً، ففي غضون 48 ساعة، وبعد ضغوط من المموّلين الخارجيين، على مايبدو، عادت الجماعة ورفضت البيان. 
 
وقد ظهر قائد لواء التوحيد عبدالقادر صالح في بيان مصوَّر جديد، وهو يجلس في جوار رئيس المجلس العسكري في حلب، العقيد عبدالجبار العقيدي، الذي يدعم الائتلاف الوطني. أعاد صالح في البيان تأكيد التزامه الحكمَ الإسلامي، ولكنه خفّف من لهجة إعلان 18 تشرين الثاني/نوفمبر قائلاً: "نؤكد أن سورية الحرة هي دولة مدنية أساس التشريع فيها الدين الإسلامي، مع مراعاة جميع أطياف المجتمع [الأقلّيات] السوري". كما أيّد الائتلاف الوطني، وطالبه بـ"زيادة تمثيل القوى الثورية، وتفعيلها في أجهزة الائتلاف ومكاتبه".
 
وفي 23 تشرين الثاني/نوفمبر، صدر بيان آخر في شريط فيديو، كنسخة مصحّحة وموافق عليها من إعلان 18 تشرين الثاني/نوفمبر. صُوِّر البيان في القاعة نفسها، وعلى طاولة المؤتمر نفسها، لكن العلم الإسلامي استُبدِل برايات لواء التوحيد. أوضح عبدالقادر صالح - ويحيط به العقيد العقيدي مرة أخرى - أن المتمرّدين يسعون إلى إقامة "دولة عادلة تحكم وفقاً لشرع الله"، لكنه تجنّب استخدام مصطلح "الدولة الإسلامية"، ولم تكن هناك إشارة إلى الائتلاف الوطني. 
 
ضمّت قائمة الداعمين للبيان الجديد معظم مَن شاركوا في إصدار فيديو 18 تشرين الثاني/نوفمبر، بما في ذلك لواء التوحيد، ولواء الأمة، ولواء السلطان محمد، ولواء أحرار سورية، وحتى كتائب أحرار الشام. في هذه المرة، دعم لواء الفتح في الجيش السوري الحر والمتحالف مع المجلس العسكري، البيانَ أيضاً، في حين جرى إخراج جهاديي جبهة النصرة وحركة الفجر الإسلامية من القائمة.

صراع على النفوذ

خمسة أيام فقط فصلت بين إعلانَي 18 و23 تشرين الثاني/نوفمبر، حيث تم تصميم كل منهما لجذب مجموعة سياسية مختلفة. وتدلّ هذه القضية على الطبيعة المتغيّرة للغاية لسياسة المعارضة السورية، حتى في الوقت تحثّ معركة حلب الخطى ببطء نحو النهايات.
 
من ناحية، تزداد حركة التمرّد تجذّراً. فالإسلام السياسي السنّي يصبح التيار الرئيس الجديد، فيما تزداد الجماعات الجهادية المتشدّدة قوة ونفوذاً. ومن ناحية أخرى، يمتلك التحالف الأميركي الخليجي أيضاً، بمزيجه المكوّن من "الجزرة" المالية و"العصا" السياسية، تأثيراً كبيراً على أرض الواقع. فقد تمكّنت واشنطن والدول الخليجية، من خلال إنفاقها أموالاً أكثر من الجهات الإسلامية الخاصة المانحة، من دفع معظم المتمرّدين في التيار الرئيس في سورية نحو مواقف سياسية تتبنّاها هي نفسها، بما في ذلك تقديم الدعم على مضض للائتلاف الوطني.
 
أثبتت الثورة في ليبيا أنه غالباً مايمكن الاعتماد حتى على الجماعات السلفية المتشددة لتخفيف أجندتها الإيديولوجية - أو على الأقل تأجيل تنفيذها - بهدف الحصول على دعم الدول الأجنبية. بيد أن قلّة من الجماعات الجهادية العقائدية ستستمر في مقاومة النفوذ الغربي، ومحاولة دفع زملائها من المتمرّدين المسلمين نحو تبنّي مواقف سياسية متطرّفة. قد يكون وجود هذه الجماعات متواضعاً داخل حركة التمرّد ككل، إلا أنها مغروسة أيضاً في العديد من المناطق الاستراتيجية في سورية، مثل محافظتَي إدلب وحلب، كما أن مقاتليها المتفانين أكفاء للغاية في الميدان. وفيما تتقدّم عملية "أسلمة" التمرّد الأكبر، تتضاءل الحواجز الإيديولوجية ببطء في وجه نفوذ الإسلاميين.
 
في الوقت الحالي، كل العيون مسلّطة على قادة المتمرّدين في شمال سورية، حيث يستعدّون لانتزاع عاصمة البلاد الاقتصادية من يد الحكومة. وصحيح أن معظمهم أثبت حرصه على إرضاء مجموعة أصدقاء سورية، في مقابل الدعم المالي، إلا أنهم سيضطرون أيضاً إلى تحقيق التوازن بين الاحتياجات الاقتصادية وبين الجاذبية الإيديولوجية للإسلام السياسي والدعم العملي الذي تقدّمه التنظيمات الجهادية على أرض الواقع. وبالتالي يمكن أن تثبت معركة السيطرة على حلب أنها حاسمة، لا في القتال ضد بشار الأسد فحسب، بل أيضاً في الصراع على روح الثورة السورية.
 
آرون لوند كاتب متخصّص في شؤون الشرق الأوسط.